9hu9i

غاندي وطبقاً لسيرته الذاتية ، فقد كان إنساناً خجولاً و هادئاً بالفطرة ، وفي طفولته كان يخاف من كل شيء : اللصوص ، و الأشباح ، والأفاعي ، و الظلام ، والغرباء على وجه الخصوص ، ودفن نفسه بين ثنايا و طيات الكتب و كان يهرع عائداً للمنزل بمجرد انتهاء يومه الدراسي بالمدرسة ، خشية أن يضطر للتحدث مع أي شخص ، وعندما صار شاباً ورغم أنتخابه لشغل منصبه القيادي الأول كعضو في اللجنة التنفيذية لجميع الأشخاص النباتيين ، كان يحضر سائر الإجتماعات ولكن خجله الشديد يمنعه من الحديث.

سأله أحد أعضاء اللجنة وهو يشعر بالحيرة : (( إنك تتحدث معي على ما يرام ، ولكن لماذا لا تنبس ببنت شفة في أي من أجتماعات اللجنة ؟ )) وعندما نشب صراع سياسي في اللجنة ، كان لدى غاندي آراء حاسمة ولكنه لم يجرؤ من فرط خوفه على الجهر بأي منها ، فقام بتدوين أفكاره كتابياً بهدف تلاوتها أمام الأعضاء في الإجتماع ولكن جَبُن في النهاية حتى عن تنفيذ ذلك.

وتعلم غاندي بمرور الوقت أن يتعامل مع خجله ، علماً بإنه لم يتمكن مطلقاً في الحقيقة من التغلب عليه ، ولم يكن بوسعه التحدث بشكل إرتجالي أو عفوي وتجنب إلقاء الخطب كلما امكنه ذلك ، وحتى في سنواته الأخيرة ، كتب يقول :  (( لا أظنه أنه يمكنني أو حتى أنزع إلى الاستمرار في أجتماع مجموعة من الأصدقاء مشغولين بالتحدث )).

إلا أن خجله هذا صاحبته قوته المتفردة .. وهي نوع من القيد يمكننا فهمه على أفضل وجه عن طريق سبر غور جوانب غير معروفة للكثيرين من قصة حياة غاندي ، لقد قرر غاندي – وهو بعد شاب – أن يسافر إلى إنجلترا لدراسة القانون ، وهو ما جاء مخالفاً لرغبات طائفة مودهي بانيا التي ينتمي إليها ، فقد  كان محرماً على أبناء الطائفة تناول اللحوم ، و آمن زعماؤها أن أتباع النظام النباتي كان أمراً مستحيلاً في إنجلترا ، ولكن غاندي كان قد تعهد بالفعل لأمه الحبيبة بإن يمتنع عن تناول اللحوم ، وعلى هذا فلم ير أي خطورة في الإقدام على رحلته ، وقد أوضح غاندي رغبته تلك لـ الشيث (( شيخ الطائفة )) عندما أحتج الشيث قائلاً : (( هل ستتجاهل تعاليم الطائفة ؟ )) فأجابه غاندي : (( أنا أشعر بالعجز حقاً .. فأنا أعتقد أن الطائفة لا ينبغي عليها التدخل في هذا الأمر )) كان رده بمثابة القنبلة ! وترتب عليه عزله و حرمانه من عضويته بالطائفة قرار ظل سارياً حتى عندما عاد من إنجلترا بعد ذلك الموقف بعدة سنوات تحدوه آمال مبشرة بالنجاح كمحام شاب يجيد التحدث باللغة الإنجليزية ، وأنقسمت الطائفة حول كيفية التعامل معه ، حيث أحتضنه أحد المعسكرين بينما لفظه الآخر ، وكان يعني هذا أن غاندي لم يكن مباحاً له أن يأكل أو يشرب في بيوت أعضاء الطائفة الآخرين ، بمن فيهم شقيقته ووالدا زوجته.

وكان غاندي يعلم أن أي رجل آخر في مكانه كان سيلتمس إعادة قبوله في الطائفة مرة أخرى ولكنه لم ير أي فائدة ترجى من ذلك ، فقد كان يعلم أن التناحر لن يجلب سوى الثأر و الإنتقام ، فأستجاب بدلاً من ذلك لرغبات الشيث وظل بمنأى عن الطائفة وبيوت أعضاءها ، وحتى عن آسرته وذلك على رغم من أن شقيقته و أسرة زوجته كانتا على أستعداد لاستضافته في منازلهم سراً إلا أنه رفض ذلك.

مالنتيجة التي ترتبت على امتثاله لهذه الأوامر ؟ لم تكف الطائفة فحسب عن مضايقته ، بل قام أعضاؤها – بمن فيهم هؤلاء الذين تسببوا في عزله – بمساعدته في عمله السياسي الذي تلا ذلك ، وبدون أن يتوقعوا أي شيء في المقابل ، وعاملوه بحنو وكرم ، وقد كتب غاندي فيما بعد يقول : (( أنا على قناعة بإن كل هذه الأشياء الطيبة سببها عدم معاندتي ، ولو كان قبول أنضمامي للطائفة تسبب في إضطرابي و استثارتي ، ولو حاولت تقسيمها إلى المزيد من أنأى بنفسي بعيداً عن المشاكل ، لكنت وجدت نفسي لدى عودتي من إنجلترا غارقاً في دوامة من الاستثارة و التحريض )).

وقد اتبع غاندي هذا النمط السلوكي – أي قراره بقبول ماقد يعترض عليه أي شخص غيره – مراراً و تكراراً في حياته ، وكمحام شاب يعمل في جنوب أفريقيا ، تقدم للإلتحاق بنقابة المحامين المحلية ، إلا أن النقابة هناك لم تكن ترغب في انضمام أعضاء من الهنود إليها ، وحاولوا التصدي لطلبه وتعجيزه عندما اشترطوا الاطلاع على نسخة أصليه من إحدى الشهادات التي كانت محفوظة لدى محكمة بومباي العليا و بالتالي كان يتعذر الحصول عليها ، أثار الأمر حنق و غضب غاندي ، فقد علم جيداً أن السبب الحقيقي وراء هذه المعوقات هو التمييز ، إلى أن يظهر مشاعره وقام عوضاً عن ذلك بالتفاوض معهم في صبر و حلم ، إلى أن وافقت النقابة على قبول إقرار خطي مشفوع بقسم من أحد أصحاب المقام الرفيع المحليين هناك.

وجاء اليوم الذي وقف فيه غاندي للإدلاء بقسم الانضمام للنقابة ، فامره رئيس المحكمه أن يخلع عمامته التي يعتمرها ، أدرك غاندي عندها مواطن ضعفه الحقيقيه ، كان يعرف أن مقاومته سيكون لها ما يبررها ، ولكنه كان يؤمن بإن عليه حسن اختيار ما يخوضه من معارك ، لذا قام بخلع غطاء رأسه ، الأمر الذي أزعج أصدقاءه ، قالوا إن صاحب شخصية ضعيفة وكان ينبغي عليه أن يتشبث بمبادئه ، إلا أن غاندي شعر بأنه تعلم (( أن يقدر جمال الحل الوسط و التسوية )).

وإذا سردت عليك هذه الحكايات دون ذكر اسم غاندي و إنجازاته اللاحقة ، فربما تعتبر بطلها شخصية شديدة السلبية ، وفي الغرب ينظر للسلبية على أنها خطيئة ، ومعنى أن تكون (( سلبياً )) حسبا ورد في قاموس ميريما – وبستر – هو أن (( تكون تحت تأثير قوة خارجية )) ، كما أنها تعني أيضاً أن تكون (( مستسلماً )) ، وقد رفض غاندي نفسه عبارة (( المقاومة السلبية )) حيث أنها مرتبطة عنده بالضعف وفضل مصطلح (( ساتياجراها )) الذي أستحدثه كي يقصد به (( الثبات و الرسوخ في ملاحقة الحقيقة )).

ولكن كما توحي كلمة (( ساتياجراها )) فإن سلبية غاندي لم تكن ضعفاً على الإطلاق ، بل كانت تعني التركيز على الهدف الأكبر و الأهم و الامتناع عن تشتيت طاقته في مناوشات غير ضرورية إبان ذلك وكان غاندي يرى أن ضبط النفس من أهم و أعظم خصاله ، وأن هذه الخصلة نبعت من خجله :

لقد عودت نفسي على التحكم في أفكاري ، ولم يخرج من لساني مطلقاً أو خط قلمي كلمة طائشة دون التفكير فيها أولاً ، لقد علمتني الخبرة أن الصمت جزء من الإنضباط الروحي للمدافعين عن الحقيقة ، و هناك الكثير من الناس شديدو التوق للكلام وتضيق صدورهم عند الصمت ، ويعد ذلك إهداراً فادحاً للوقت ، وكثيراً ما كان خجلي بمثابة درعي الواقية و مصدر حمايتي ، لقد أعانني على النضج و ساعدني في أستبصار الحقيقة.

إلا أن القوة الناعمة لا تقتصر على النماذج أو الأمثلة الأخلاقية مثل مهاتما غاندي ، ولتفكر – على سبيل المثال – في تميز و تفوق الآسيويين بشكل هائل في مجالات مثل الرياضيات و العلوم ، ويعرف البروفيسور (( ني )) القوة الناعمة على أنها (( إلاصرار الهاديء )) وهذة الصفة هي لب التفوق الدراسي .. تماماً كما شكلت أساساً لإنتصارات غاندي السياسية ، وتطلب الإصرار الهاديء الانتباه المتواصل للتحكم في ردود أفعال المرء تجاه عوامل الاستثارة و المحفزات الخارجية.


نقلاً عن نسخة مترجمه من هند صابر لكتاب (( الهدوء .. قوة الانطوائيين في عالم لا يستطيع التوقف عن الكلام )) تحدثت عنها بتدوينة سابقة ( الهدوء : قوة الإنطوائيين ! ) ..

أثارتني قصة غاندي بتفاصيلها في الكتاب فأصابتني بالذهول ، لذلك قمت بكتابتها لكم 🌹