ge54rgteqwazdcvs43w

اليوم الخميس وقبل أن أغادر مكتبي قررت التوقف لأودع زميلي قبل أن تبدأ إجازة نهاية الأسبوع ، كان بجواره يجلس زميل لنا ألماني يعمل في قسم آخر ، أحتكاكي يكاد يكون معاه قليلاً ، حتى أني أسمه لا أعرفه ، ولكن فجأه ما أن دلفت لأبحث عن زميلي الذي يبدو أنه غادر مبكراً ، بدأ بالكلام بقوله أن المكيف متعطل بمكتبه لذلك جاء هنا ، قلت له لا عليك ، هذه تجربة عليك أن تقوم بها بالسعودية بأن تشعر بالحر ! ، ضحك وقال أصولي كازخستانية وأعلم جيداً معنى الحر عندما أزور جدتي في كازخستان ، بدأنا بتلقائية غريبة بسلسة متتالية من الأحاديث الماتعة والمناقشات الساخنة التي أمتدت لساعة التي أدهشني فيها بثقافته الكبيرة ، في هذا الوقت من النادر أن ألتقي بأشخاص يملكون معرفة واسعة بمواضيع مختلفة ، وكان مكمن الدهشة لدي أنه يعرف ثلاث لغات بشكل جيّد وهي الألمانية والروسية و الأنجليزية و بدأ تعلم اللغة العربية كلغة رابعة يرغب بإجادتها ..

بدأ عقلي يفكر بمجتمعنا ، ونسبة المثقفون فيه ، أو لنقل على الأقل أصحاب الأطلاع المعرفي الواسع ، أملك العشرات من الأصدقاء و أعرف المئات الذين جالستهم خلال السنوات الماضية ولكن من النادر أن يحدث أن أتشوّق الحديث مع أحدهم إلا مع قلة قليلة أكاد أعدها ، والسبب أن الكثير منهم يبدو خاوياً ، لا أجد عند حديثي معه إلا صلصلة فخار ! ، سعة الأدراك المعرفي لديه تكون ضعيفة ، حججه واهيه ، لا يبدو ماتعاً بحديثه بالنسبة لي ، قليل منهم من يشدني لأجلس معه لوقت أكثر ، مرات كثيرة أجد نفسي أخرج أوراق ” لعبة البلوت ” وأقول من يرغب باللعب ؟

قيّل قبل سنوات أن اليابان أحتفلت بموت أخر شخص ” أميّ ” أي أنه لا يعرف القراءة والكتابة بمفهومنا ، ولكن في الحقيقة كان لا يعرف كيفية أستخدام الحاسوب ، هكذا تم تعريف كلمة الأميّة في اليابان ، أما الآن ، أجزم أن الأمية بمفهومها الجديد ينطبق على المعرفة والثقافة في زمن أصبح من السهل الوصول إلى المعلومة ، حيث الآن أجد الكثير من يتمنعّون عن التعلم !

أعود إلى صديقنا الألماني في أول تدوينتي ، قال أنه بدأ بتعلم اللغة العربية قبل خمس سنوات عندما بدأ يسمع بأمكانية قدوم المهاجرين السوريين إلى ألمانيا ، يقول قررت تعلم اللغة العربية حتى قبل أن يصل أول فوج من المهاجريين السوريين حتى أكون مستعداً لمساعدتهم وتلبية شؤون أحتياجاتهم ، المفارق العجيبه أنه يعمل مع الكنيسة في هذا الشأن وقد سمع بالأخبار عن طريقهم ، مالذي يدفعه لتعلم لغة جديدة بمجرد معرفته بقدوم المهاجرين العرب ، كم واحد منا أحتاج أن يتعلم شيء من أجل شخص أخر ؟ بهدف تطوعي ! ، كان هذا سؤالي الذي رددته لنفسي خلال هذا اليوم ، مالذي يمنع العربي أن يتعلم لأجل نفسه أولاً ، قبل أن يصل للتعلم من أجل الأخرين ؟

ففي آحدى الليالي الصيفية الحارة التي جمعتني مع عدد الأصدقاء ممن يحملون شرف مهنة التعليم ، طرحت لهم هذه الفكرة عن الجاهلية الحديثة ، وطرحت لهم مثالاً بأبسط حدود المعرفة وهي أن الكثير من أفراد المجتمع يجهل حتى ماهي الأركان الخمسة للأسلام ، فقلت بصوت عالٍ ” أن بعض أشخاص المجتمع لا يعرفون ماهي الأركان الخمسة للأسلام ” ، قاطعتني مداخلة أحد المعلمين حيث أعترف بعدم معرفته بالأركان الخمسة للأسلام ، شدهّت عينايا حينها ! ، اللهم أجرنا في مصيبتنا فأنا لم أسأله عن أركان الأيمان الستة ، هذا ما قلتها في نفسي ، يجب أن يكون هناك حد أدنى للمعرفة الحياتية للفرد ..

لم يكن تفكيري حول تدني وتردي ثقافة الفرد العربي هي لحظة أنكشاف جديدة لدي ، بل إثر سنوات طويلة من المعايشه في العمل و الشارع ، حيث لم يقتصر هذا القصور المعرفي على فئة معينة بالمجتمع ، سواء متعلمة أم غير متعلمة ، بل من لا يعرف القراءة والكتابة جيداً ربما يملك مقدار كبير من الأطلاع المعرفي والحياتي لا يملك مقداره من أصحاب الشهادات العلمية الذين يتفاخرون بأبحاثهم التي قدموها قبل سنوات طويلة ، فواقع العلم لا يقتصر على ما تأخذه من أجل الحصول على الشهادة ولحظة نشوة الإنجاز و التوقف عندها وكأنك عرفت العالم ولا حاجة لمزيد من التقدم ، فعجلة التعلم لا تتوقف ، والتقدم من أسمه تقدم ، فهو لا يتوقف ، والمراجعة الدؤوبة هي أحتياج ضروري للحفاظ على مكتسباتك العلمية والمعرفية حتى لا تنساها ، لازلت أحفظ نظريات فيزيائية درستها أيام الثانوية ، ولازلت بين الحين والأخر أراجع قواعد الإملاء ، فالمراجعة شيء ضروري للتأكيد على المعلومة والحفاظ عليها ، قال لي أحد الأصدقاء أن دكتور جامعة عريقة لدينا بالسعودية ويدرسهم مادة لتخصص علمي ، يقول أن المنهج عمره أكثر من أربعين عاماً ، ومؤلفه هو نفس الدكتور السبعيني ، أيعقل أربعون عاماً لم يطرأ تجديد في المنهج ولم يتم أكتشاف أي شيء ليتم إضافته للمنهج ؟ فالدكتور يدرسهم منهج علمي نادر هو نفسه من أربعون عاماً لم يتغير ، وهذا حال الكثير بالمجتمع عندما يتعطّل فجأه عن مسيرة مواصلة التعلم والتجديد و التوسع المعرفي ، يتحول من كونه أنسان يتعلم ويتأمل إلى أنسان يأكل فقط ويحتفظ ببعض الآثار في رأسه و يحيطها بسور عالِ ، خوفاً عليها !