كم تلك التصرفات تبدو صغيرة لكن من نبلها تشعر بها تلامس كل خلايا قلبك ، لطالما أنبهرت من تلك التصرفات البسيطة التي تصدف أن أشاهدها في السنوات القليلة الماضية ، مثل ذلك الرجل المسن الذي قرر التوقف والأنتظار من أجلي قليلاً وهو ممسكاً بياب ذلك المتجر التجاري في هامبورج الألمانية، أو ذلك قائد سيارة الأجرة الذي قرر أن لا يأخذ نصف أجرة الرحلة بسبب أن الأمطار اللندنيه قد بللت ملابسي ، كأنه يعتذر لي بالنيابة عن سماء لندن !

لم يخطر في بالي للحظة واحده أن أكتب عنها يوماً ، كنت ألزم نفسي بالأحتفاظ بها في جزء داخلي عميق ومدفون مع تلك المواقف الكثيرة العالقة في ذهني ، فلازلت مؤمناً بإنها هي التي تجعلني حياً وتمدني بالأحاسيس ، أشعر بإن فعلي هذا وأنانيتي المفرطه أتجاه هذه الأفعال الطيبة التي أكتمها ، وقراري الإحتفاظ بتلك الكنوز الثمينة أو المواقف الجليله في رأسي وصدري ستجعل مني شخصاً أفضل ، فعندما أحتفظ بها ، ستبقيني حياً!

يهزني الخوف كل ما هممت كتابتها ، أشعر بفقدانها ، فدائماً يأتيني شعور مجلجل ، بإن ما سأكتبه ، فهو الآن يخرج مني ولن يعود ، ومن أجل هذا السبب كنت أحتفظ بهذه المواقف رغم بساطتها و صغرها ، فأتوقف  فوراً عن كتابتها ، ومع كل هذا أنا الآن أشعر بعظمتها تتدفق بداخلي ..

هذه المره وكما اسلفت بمقدمتي المتواضعه ، قررت كسر قاعدتي السابقه بالحديث عن يوم الثامن عشر من يوليو كان درامتيكياً وسريعاً بالنسبة إلى أيام حياتي التي أعتدت أن أبقيها هادئه بقدر الإمكان ، أو لنعود بالحديث عن قبلها قليلاً بأيام ، كنت أتحدث مع ابن عمي الودود عبدالمحسن عن مخططات لقضاء عطلة الحج ومالذي يمكننا أن نفعله سوياً ، كانت إحدى الإقتراحات المطروحه أن نذهب سوياً بعائلاتنا الصغيره إلى مدينة صلالة العمانية بالسيارة ، لكن فجأه تذكرنا بُعد المسافة ، فقررنا أستبعاد الفكرة بالكليّة.
لم يطرأ على بالي ولو لحظة واحده أن أكون أنا وهو في طائرتين مختلفتين في الجو بعدها بأيام قليله، ومتجهين على عجالة إلى صلالة بعد حديثنا الفائت، فقد سمعنا خبر حدوث إنقلاب لسيارة للـخال علي ، عند وصولي إلى صلالة أتجهت مباشرة إلى بوابة المستشفى التي كان ينتظرني عند أبوابها خالي علي ، تطمنّا عليه وعلى جميع أفراد العائلة بعد هذا الحادث ، أحتجنا أن نبقى ثلاثة أيام أخرى في المستشفى لمتابعة حالات المصابين من العائلة ، كنا طوال بقاءنا في المستشفى ما كادت تمر علينا ولو للحظة واحده لم تغمرنا فيها حفاوة عمانية طيّبه ، كان أهل صلالة مثل النهر الجاري ، الذي يغدق عليك بالماء ولا يتوقف ، أو مثل معجّم الصفات العربية الجميلة المليء بصفات مثل الكرم والشهامة والطيبه والإيثار، لم أصادف في حياتي أبناء مدينة كانوا بهذا الكمّ الجمّ من الودّ نحونا نحن الأغراب الزائرين ، قررت في اليوم الثالث أن أتخلى عن ردائي السعودي بسبب كمية الكرم التي تمطرني في الشوارع والمحلات ، لا يجدون حرجاً أن يوقفوك ويسألوك عن ما تريده؟ بل حتى في المستشفى ، كل من رآني ، قام بالتوجه نحوي ليسألني عن أحوالي ويلطّف علي بكلماته ، فهم يجدون أقل ما يقدمونه هذه الكلمات العذبه الرقيقه النديّه كوسيلة تعبّيريه عن مدى كرمهم العربي المتجذر في هذه الأرض الزاهية باللطف، تسير فيها وكأنك تسبح في بركة الأمتنان ، في بلدي وتحديداً في هذا الزمان قد يحدث أن يعدُ هذا الفعلِ من السؤال تطفلاً ، وقد تلطمك بعض الردود المحرجه عند سؤالك لمن بجوارك عن حالته وعن سبب مجيئه للمستشفى ، بينما هنا لا يترددون في الحديث عن أنفسهم وكشف ما بداخلهم لك بكل بساطة متناهيه ، هذا هو الإنسياق الطبيعي مع الأخرين الذي تلتمسه في صلاله ، فهنا لا حدود بين الناس ، تحياتي من سماء السعودية إلى أهل عمان ، إلى ذلك الكمال السابع الذي يكمن في صلالة و التي عمقّت فيني مشاعر السماء والأرض كلها ، وجدت فيها معاني الكرم بين العطاء والأخذ .. كانت تعطيني وأنا آخذ منها .. كمية أمتنان لا أستطيع ردها حتى بكلماتي المتهالكه هذه.

1-IMG_20190719_142205.jpg

*لن أنسى الأخوة محمد ومنير الشمري من أبناء صلاله ، بالإضافة إلى مازن و خالد با عمر .. فقد أكتسبت معرفتهم ، وقبلها نالني سيل عرمرم من كرمهم الذي فاض على كتفي.