الليلة التي مرت قبل البارحة كنت في طريق مرصوص بالأسفلت، أسير بسرعة متهادية ومطمئنة ، فهذا الطريق أعرفه منذ ثلاثين عاماً لا داعي من الإندفاع ، فهذه مكة أعرفها كما أعرف أصابع يدي .. هدفي تلقائي ومتوّلد من جذوري الممتدة في مكة ،  لا أحد يسألني من العائلة والأصدقاء عن أسبابي من وراء هذه الرحلة ، ولكن هذه المرة أعتراني حماس شديد وشوق كبير لإجازة العيد بعد غياب قسري أمتد لعام طويل ومتخم بأحداث ما كانت تجيء إلا في روايات الخيال العلمي وأما بالنسبة لي لا أستطيع تخيلها بمفردي ، وهذه المرة الأولى التي أجد مكة فيها منغلقة بذاتها عن الناس ، في منظر لا يصدقه عقل ، لا يمكن أن تلخّصه بكلمات أو تصوّره لأنسان بعيد ! مهما أمتلكت من حذاقة الكلمات الموصوفة لكل ما شعرت به لحظة وصولي إلى مكة وكيف شحوبها يرتسم أمام ناظري و صمتها الكئيب أصمّ أذني ، ورائحة البليلة و الفول أختفتا من الشوارع ! لا يوجد شيء يدل على وجودي في مكة سوى هذه الشوارع التي أعرفها بأسماءها .. ولكن ليست بذاتها !

كان الطريق مُتعبٌ لي ، وزادني تعباً رؤية مكة بهذا الذبول الذي يكتنفها من أطرافها وحتى وسطها ، وكأنها تخوض حرباً فتاكة مع الكورونا ، الشوارع مليئة بمراكز التفتيش والتي تؤكد على حاجة بقاء الناس في منازلهم ، الحرم المكي في الطبيعة مختلف عن ما نراه من الصور التي تصلنا في هواتفنا ، لا كلمات توصف هذه اللحظة التي ترى فيها مكة بهذا الشكل المشوه ! ، نعم هناك مباني ولكن كانت تعمر بالبشر ، بتلك الأفواج من كل الشعوب والأجناس من الناس ..

مكة تفاصيلها هم الناس ، لا يمكن أن تشير لها دون أن وجود ذلك الضجيج من الدعاء ، أنها مأساة من نوع خاص لمدينة مكة عن سائر كل المدن التي مررت بها خلال الشهور الماضية ، لا الخبر ولا الرياض ولا جدة رأيتها بهذا الحزن كما رأيت مكة ، هي الوحيدة التي تشتاق للناس ، وهم يشتاقون لها !  فرج قريب و الله المستعان !

dsc_2673

*الصورة من أرشيفي ، تمت في شهر سبتمبر من عام 2011 ، قبل تسعة أعوام