أضع بعض الفوائد التي حصدتها من كتاب ” قلق السعي إلى المكانة ” للكاتب والفيلسوف البريطاني آلان دو بوتون ، تعرفت على الكتاب من خلال مراجعة صديقي مازن والذي أهداني الكتاب وللأسف سقط مني وأنا أسير الى السيارة ولم أنتبه إلى فقداني له إلا بعد وصولي للمنزل ، أضطررت بعدها للذهاب إلى أقرب مكتبة وشراء نسخة أخرى من الكتاب.

بدأت بقراءة الكتاب بعد عدة أشهر رغم هذه العجلة ، وتتالي بعدها البطء وأنا أحاول مضغ هذا الكتاب الثقيل بمحتواه المدهش ، فقد وضع رؤية جديدة أمام عيني أمام منطلق كلمة مكانة ، حيث أخذني من أساس الكلمة و وصولاً إلى معناه النهائي وشكله الأخير في هذا الزمان ،فالكتاب يجاوب أسئلة بدأت تظهر بشده مؤخراً نحو المكانة لم تكن هذه التساؤلات والمطالبات موجودة قبل القرن الثامن عشر ، حيث كان الإنسان لا يعي كثيراً لهذه الطبقية أو البحث عن المكانة كما هو الحال الآن تحت الضغط الشديد الذي يشرعنه المجتمع ، فقد أصبح المجتمع يقيمك حسب مكانتك ، في المستشفى والشارع والمجالس ، لم يعد الشخص مفصولاً عن مكانته التي يصنعها ، فكان هذا الكتاب الذي ساعدني في لملمة المكانة كمفهوم وتعريف .

لذلك يبدأ بتعريف المكانة في أول فصول الكتاب بقوله : موقع المرء في المجتمع ، وبالمعنى الضيق تشير الكلمة إلى موقع المرء قانونياً ومهنياً داخل المجتمع ، متزوج ، ملازم في الجيش ، طبيب أطفال .. ألخ ولكن بالمعنى الأشمل وهو الأوثق صلة بموضوعنا هنا تشير إلى قيمة المرء وأهميته في أعين الناس.

وبكلمة آخرى أصبح تعريف المكانة على مدى ما تُمكن المرء من ما يحوزه من موارد. ويجول في الفصل الأول حول المشاعر الوجدانية للمكانة ، و أنها ولدت بشكل سيكولوجي ولم تكن صنيعة الإنسان أو متخيلة بل هي تنبع من حاجاته الفيسولوجية ، وجود قيمة لذاته هو أساس يقوم عليه الإنسان ومن دون هذه القيمة لم يعد للإنسان وجود ، بل هو أسوأ عقاب قد تفعله كما يقوله وليم جيمس في كتابه مباديء السيكولوجيا ويستشهد به الكاتب آلان.

وبعد أن أنتهى من ذكر أقل شيء وهو عدم وجود المكانة وتأثيرها في الفصل السابق ، يأتي في الفصل الثاني بالنقيض المحتدم وهو الغطرسة وكأنه يبين الطرفين قبل أن يدلف بالمكانه بشكلها الوسطي الطبيعي دون أن يكون فيها نوع من التطرف أو التقصير ، فخلال الفصل ركز على الغطرسة من ناحية أخلاقية بعكس التقصير نظر له من حيث حالة العواطف ، ونظر لها بجمود فقارن بين بدء ربط سكك الحديد في بريطانيا والنهضة الصناعية الأولى مع ظهور الغطرسة مصاحبة لها في بريطانيا ، وحتى أن الكلمة لم تتشكل ولم تعرف قبل هذا التاريخ ، وبدأ هجومه على فئة المتغطرسين بأن لا أصدقاء لهم ، وأن أهتماماتهم منصبه على الصيت والمُنجز ، و أخذ بأفتراض ثاكري بإن الصحف هي كانت السبب في نشوء الأهتمام بالطبقة الأرستقراطية وذوي المكانة العالية ، ويتسائل ثاكري كيف نتخلص من الغطرسة وكل هذا اللغو المنتشر في الصحف والتبجيل المترف لذوي المقام الرفيع وتوصيفهم بكل تلك الكلمات التفخيمية لهم ، فهي تعزز هذا التصور في أذهان الناس ، وأن كل جيل سينقل هذا العدوى إلى الجيل الذي يليه ، وإن أشد ما يقوم به المتغطرسون الإهانة وأنهم ليسو سوى ضحايا الأزمات العاطفية العصبية ، أي أن المجتمع هو ما أنتج المغطرسين ، كما قال في البداية أن حاجة المكانة من الإنسان ذاته ، فإنه يلوم هنا المجتمع بكونه مسبب الغطرسة. وفي الفصل الثالث ينظر إلى فعل ” التطلّع ” فتذكرت الآية القرآنية ( ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى ) ، فـ آلان يشير إلى التطلع والنظر كمسبب آخر لوجود المكانة في حياتنا ، وكيف أن زيادة الأشياء من حولنا مثل الهواتف و مكينة الخياطة ومعلبات صلصة الطماطم كلها لها تأثير في عملية التطلع وصنع تأثير المكانة في نفوسنا ، برغبتنا بتملك الأشياء الصغيرة تلك ، كنت قد قرأت كتاب زمن مستعمل للكاتبة سفيتلانا أليكسييفيتش والتي كانت تذكر مراراً وتكراراً بفكرة وجود المارتديلا في المتاجر كنوع من الحاجة إلى تلك المكانة وصورتها بشكل غير مباشر كأنها كانت الدافع الخفي لتأييدها لثورة الرأس مالية ضد الشيوعية في بلادها أوكرانيا ، كانت تردد بأستمرار عن فكرة وجود شيء أسمه مارتديلا لا تعرف طعمه ولكنهم يتحدثون عنه القادمون من خارج بلادها القابعة تحت قبضة الشيوعية ، وأن الرأس مالية ستكون هي الطريق إلى هده المكانة التي يوجد فيها بكل بساطة مارتديلا. هذا التطلع الذي كان يتحدث عنه آلان في هذا الفصل. ويتعذر بوجود التطلّع إلى عدم المساواة ، فعندما نعيش كلنا نفس المساكن ، متشابهه ، لا تختلف عن بعضها ، لن نشعر بتأثير المكانة إلا عندما ندخل إلى حفلة لم شمل أصدقاء الثانوية وتجد أنهم يعيشون مختلفين عنك ، لديهم سيارات أكبر ومنازل أكبر ، هنا سيبدأ التطلع للتحول إلى الحسد و أحساس ثقيلاً بسوء حظنا يتعلق برقابنا ونحن عائدين إلى المنزل ، ولحل هذه المعضلة يقول أن السبب يعود إلى شعورنا بالتشابه بيننا ، فعندما نؤمن بالأختلافات بيننا سيختفي هذا الشعور بالحسد ، فهو يسأل مثلاً لماذا لا يجيء الحسد عندما ننظر لذلك الشخص الذي يكون غنياً فوق العادة ، ولكن عندما نرى أحد يختلف عنا بشكل بسيط ، أي يشبهنا ، ولكن لديه بعض المميزات المختلفة القليلة ما أن نراها حتى يثور الحسد بداخلنا نحوهم ، وفي عرضه لفكرة التفاوت وعلاقتها مع المكانة ، يذكر أن التفاوت في أمريكا قد يكون بسيطاً لذلك كان هو السبب في شدة الصراع نحو المكانة رغم أزدهارهم و الأهم من ذلك هو وجود الطموح وسهولة التمكن من الحصول على مسيرة مهنية رائعة ، فكانت تطلعات بلا قيد ولا حد ، وهذه مشكلة أيضاً لأنها سببت أرتفاع نسبة الإصابة بالجنون بين الأمريكيين، ومع هذا لم يعد ينظر للجنون كشيئ سيء في الغرب ، ويعود في نهاية الفصل بربط التطلّع مع مطالعة مثل الصحف ومجلات مثل فوج. ولم يكتف بالكتاب بوجهات نظر المؤيدة بل أستعان بوجهة نظر الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو من كتابه خطاب حول أصل عدم المساواة : أليس من المحتمل أن يكون الإنسان الذي يعيش على الصيد وجمع الثمار ، وليس العامل الحديث كما يؤمن الجميع هو من ينعم بعيش أفضل؟ وهي في نظر المكانة نظرية راديكالية تفترض أن المكانة لا تحتاج لإمتلاك كل تلك الكمية من الأشياء ، وفصّل كلامه بالقول بإن كلما زاد أمتلاكنا زادت حاجتنا ، وأن منحنى الرغبة لا ينطفيء وهذا صحيح ذكره في الفصول التالية من الكتاب ، ولكن لجعله ثري بمنظور المكانة ، عليك أما إعطاءه مال وفير ، أن تحد من رغباته ، وهكذا يكون الإنسان ثرياً بمنظور المكانة أو قنوعاً بمنظور اللا مكانة ، والمجتمع يقوم بعكس الأخير فهو يحفز دوماً شهية الرغبة وهذا ما يجعل أفراد المجتمع دائماً ما يعيشون فجوة لسد ذلك التفاوت بين طبقات المجتمع ، مما يولد لدينا في هذا العصور شعور بالحرمان أقسى من ماعانوه المجتمعات البدائية كما يراه روسو. آمناً في سربه ، معافى في جسده ، عنده قوت يومه ، فكأنما حيزت له الدنيا بأسرها كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولكن الآن هل نحن نستطيع العيش هكذا؟ بدون قلق المكانة؟

تلى ذلك آلان يحكي عن دور المجتمع بشكل تفصيلي في الفصل الذي يليه ، أن الألم المصاحب للفقر لا يأتي من نقص المادة نفسها ولكن يأتي من تفسيرات المجتمع لهذا الفقير ونظرته الدونية له ، وأصبح لا أسوأ من يعاقب مجتمعاً فرداً بكونه فقير خصوصاً من الناحية العاطفية.

وحينما جاءت المسيحية كانت لديها ثلاث قصص تقولها للفقراء :

1- الفقير ليس بأختياره ، وأن فقره ينفع المجتمع.

2- وليس للمكانة الدنيا دلالة أخلاقية.

3- الأغنياء آثمون وفاسدون وقد أكتسبوا ثرواتهم بسرقة الفقراء.

وأنه من رسالة المسيحية وحتى مجيء جاك روسو لم يأتي يشخص يطالب بهدم السياج حو الأغنياء ، أو المحتالون كما أسماهم ، ومن روسو حتى ظهور البيان الشيوعي ، يا أيها العمال أتحدوا حيث كانت الصرخة التي دوّت في العالم ولكن أيضاً ظهرت ثلاث قصص مضادة للقصص السابقة :

1- الأغنياء هم المفيدون وليس الفقراء.

2- نعم للمكانة دلالات أخلاقية.

3- الفقراء آثمون وفاسدون وغباؤهم هو سبب فقرهم

لذلك وتحديداً بعد النقطة الثالثة لم يعد تسمية فقراء كما كان ، بل أصبحت الكلمة البديلة هي الفاشلين لوصف هذه الطبقة المتدنية والقابعة في أسفل طبقات المجتمع ، وأصبحوا تحت تنمر الناجحين والعصاميين ، ولم يعد الأغنياء من طبقة الأرستقراطية عبر الوراثة بل تحولت إلى طبقة الناجحين ، ولعل الفلسفسة الداروينية الإجتماعية هي من فسرت هذا التغير في التوزيع العادل للموارد الشحيحة بين جميع الناس على أساس خوضهم معركة على أساس فطري وليس لأنهم الفضل من وجهة نظر أخلاقية بل كانوا الأفضل طبيعياً ، وهذا شيء مثير للفزع ، وكأن البيولوجيا قد حكمت بشكل مسبق على الفاشلين ، و كأن البيولوجيا قد حكمت بشكل مسبق أن يكون الفقير فقيراً والغني غنياً.

يلي هذا فصل تحدث فيه عن الإعتماد ، الإتكالية للنجاح على عوامل أعتمدها الأفراد ، بدأ بالموهبة ووصفها بأنها متقلبة وليست ذات أعتمادية كما يعتقدها الكثير ، ومن ثم عرج على العامل الثاني وهو الحظ من أجل الحصول على المكانة ، وثالث العوامل على صاحب العمل ورابعها على أزدهار الأقتصاد العالمي ، ويذكر مثال ” إن ما يؤمّن لنا العشاء على المائدة ليس حب الخير في نفوس الجزّار والخمار والخباز ، لكنه أهتمامهم بمصالحهم ، نحن لا نتوجه نحو إنسانية الآخرين، بل نحو حبّهم لأنفسهم”.

وهنا ينتصف بالكتاب ويبتدأ بالجزء الثاني والذي يبدأ في سرد الحلول بعد أن كان ، يعرّف ، ويعدد المشكلات ، وأول ما ذكر هو فلسفة المكانة كحل منقذ ، من خلال الفلسفة قد نجد حلاً لفهم المكانة بطريقة صحيحة تعالج عيوبها ، وجد مثلاً أن استخدام فلسفات ديوجين ، أرسطو قد تساعد في حالة من اللامبالاة نحو المكانة ، وعدم الأهتمام بمديح الآخرين وذمهم لنا ، أو بأسلوب التعايش مع القلق وكونه وسيلة للبقاء أمام كل المخاطر المحيطة بنا ، أو التمثّل بأفكار شوبنهاور وهو أحتقار الأخرين ، وجاء فصل مهم وهو الفن ، ودوره الضروري نحو المكانة رغم تشكيك مناصرين الصناعة و إستخفافهم بدوره ، حيث أستعان برد الشاعر الإنجليزي ماثيو أرنولد على منتقدي الأدب بكتابه الثقافة والفوضى ، وكان مجمل رده يقول أن الأدب هو نصوص مستترة تهدف إلى إصلاح الأخلاق ، وإن نظرنا للمكانة فإنها أحوج للنقد وهذا ما يقوم به الأدب ، بل أن الرواية التي لا تعطي أُفقاً للتعاطف الأنساني لا تعتبر فناً ، لذلك عندما ترتص كل تلك الروايات فهي تصنع طريقاً يؤدي إلى فهم أفضل للمكانة.

وفي الفصل ما قبل الأخير يضع الدين كأحد الحلول لمشكلة المكانة ، ويأخذ بتولستوي كمثال في حياته عندما قرر أن يكون مسيحياً متديناً ويختار هذا الطريق ، خصوصاً لمشكلة مثل مكانة الموت التي لا يوجد لها حل مرضي سوى الدين .

ومع ذلك يتناقش بفكرة الدين مع المكانة ذاتها ، كأول مثال يختبرها أن المجتمع ينظر بشكل مشين لمن يكون مثل الشخص الآخر ، لا شيء أكثر سلبية أن تكون شخص آخر ، لأن معنى ذلك تكون تابع ، مقلد ، أنت لست سوى نسخة آخرى ، يعني ذلك أيضا أنك ممل ، لذلك يقوم كل شخص بإبراز نفسهبأي طريقة تتيحها له موهبته وقدراته ، ولكن عندما نسترشد الفكر المسيحي ، فهي تنظر لكل الناس سواسية ، صاحب الإمكانيات المحدودة يماثل صاحب المواهب المتعددة ، فهو مخلوق محبوب ولا شيء عيب في ذلك ، وكلهم أخوة ، لا فرق بينهم.

ومن ثم قام يشرح كيف عملت المسيحية في كونها جدار السلطة التي تبرر وجود الفقر ، وتحسين صورته دوماً ، لذلك جلبوا أفضل الرسامين وامهر البنائين ، فأنتصبت أكثر من مئة كاتدرائية في مدن أوروبا كلها كانت تختار أهم مكان في المدينة وسطها ، وكانت أعلاها بنياناً تعلو فوق مخازن الحبوب والمصانع والقصور والمكاتب الادارية ، ليصير هذا المكان توفير للإنسان ، لحزنه ومسكنته ، ويتبادلون أفكار غير معتادة تطرح فيها بعكس الأماكن الأخرى التي صممت لتلبية حاجات دنيوية .

ومن ثم في آخر الفصول وفي سرد تاريخي يتم كتابه بظهور آخر الحركات التي آثرت على مفهوم المكانة وهي البوهيمية وهي نظرة جريئة تعبر عن دور هذه الطائفة التي تتواجد في كل طبقة ، فالبوهيمية لا تتواجد بين الفقراء ، بيكاسو الثري كان بوهيميا بأمتياز ، هم المقصود بهم من يتشككون بالبرجوازيه بحد ذاتها ، هم لا يدافعون عن البرجوازيه ، هم من يكسرون قواعدها ، لأنهم ببساطة لا يحبونها ، وذلك يتفاوت ، فقد تجد بعضهم لازال يسكن في قصراً ويملك خدماً ولكن بوهيمياً ، كتب جوستاف فلوبير : ( إن كراهية البرجوازيين هي أول الحكمة ).

وهناك تأكيد كلي من جميع البوهيميين أن العمل يوم كامل هو مفسد للروح بلا شك ، ومدمر لإمكانية التحلي بالأحاسيس المرهفة.

وكان تفصيله كالعادة مقتضباً كعادته في الفصول السابقة ، ولكنه يضع لك الإعتبارات حتى تفهم ، ومن ثم عندما تتطلع في قراءاتك ستربط كثيراً من تلك المكانة ، فهذا الكتاب يضع لك الإعتبارات ، المفاهيم المجردة مع أمثلة بسيطة وحقيقية حتى تطير في حياتك لتبحث عن معنى المكانة أين توجد ، وماهي شكلها ، و ما لونها..

فهو يؤمن كما يؤمن ما مارك مانسون ، فن اللامابالاة ، وإن جميع هذه الحلول السابقة من طوائف كلها تملك ذلك القلق حيال المكانة ، وأنها موجودة ولا يمكن إخفاءها إلا عبر الإقرار بها.